جاء اتصال رشيد رضا بالأزهر الشريف بطريق غير مباشر، وذلك من خلال الاتصال بالإمام محمد عبده، الذي يُعد في كبار علماء الأزهر، وقد التقى رشيد رضا بأستاذه الإمام في طرابلس، وغدا منذ تلك اللحظة، تلميذه الأمين وشارح أفكاره.
وإذ يرى بعض الباحثين أن التلميذ بعد وفاة أستاذه قد تحوَّل فكرياً عن الانحياز للفكر الإصلاحي الذي ينشغل بقضية النهضة والتقدم الذي عني به الأستاذ الإمام، إلى الانحياز للفكر السلفي الذي ينشغل بقضية العقيدة وبالشأن الخاص.
واعتبره البعض الآخر مُجهض النهضة الإسلامية، والمنقلب على التيار الإصلاحي، إلى أن وصل الأمر مع بعض الباحثين إلى اعتباره مؤسس السلفية الوهابية في مصر، إلى ظهور ما يُعرف بالإسلام السياسي على يد تلميذه حسن البنا.
من هنا رأينا أن نتناول في هذه المقالة تلك الشخصية المحورية، وكيف بدأ الأمر به مصلحاً دينياً، إلى انقلابه على التيار الإصلاحي، ضمن قراءة سياقية متضمنة طبيعة المرحلة وظروفها التاريخية التي عاش فيها رشيد رضا.
ذكر محمد الحداد، في دراسة له بعنوان الإصلاح الديني في أعمال المعاصرين، أن ﻋﺒﺎﺭﺓ ﺍﻹﺻﻼﺡ الديني استعملت ﻣنذ ﺍﻟﻘﺮﻥ ﺍﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﺸﺮ ﻟﻺﺷﺎﺭﺓ ﺇﻟﻰ ﺣﺮﻛﺔ ﺃﻭ ﺗﻴﺎﺭ ﻛﺎﻥ ﻳﺘﺠــﻪ ﺇﻟﻰ ﺇﻋﺎﺩﺓ ﺗﺄﻭﻳﻞ بعض ﺍﻟﻘﻀﺎﻳﺎ ﺍلدينية ﺍﻟﻤﺮﻛﺰﻳﺔ ﻟﻠﺴﻤﺎﺡ ﺑﺈﺻﻼﺣﺎﺕ بدت ﺿﺮﻭﺭﻳﺔ ﻟﻨﻬﻀﺔ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﺍﻹﺳــﻼﻣﻴﺔ.
ويتابع الحداد أنه كان من أبرز أعلام هذا الإصلاح ﺍلديني المُلح العلامة ﺍﻟﺸــﻴﺦ محمد عبده (1849-1905ﻡ)، ﺍلذي ﺟﻤﻊ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﺍلدينية ﺍلواسعة ﻭﺇﻟﻤﺎﻡ ﺃﻓﻀﻞ بطبيعة ﺍﻟﻌﺼﺮ، فكان ﺃﻛﺜﺮ قدرة ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﻌﻤﻖ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﻀﺎﻳﺎ ﺍلدينية ﻭﺃﻛﺜﺮ ﺟﺮﺃﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺘجديد، ﺣﺘﻰ ﻗﺎﻝ عنه ﺩكتور ﺟﺎﺑﺮ ﺍﻷﻧﺼﺎﺭﻱ، ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑﻪ ﺻﺮﺍﻉ ﺍلأضداد: «ﺇﻥ كل الأفكار الجديدة قد خرجت من عمامة هذا الرجل».
وأقر محمد عبده أن ﺍﻟمطلوب ﻓﻲ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﻟيس ﺃﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺗﺤﻘﻴﻖ ثورة ﺩﻳﻨﻴﺔ؛ ﻣﺜﻞ تلك ﺍﻟﺘﻲ ﻗﺎﺩﻫﺎ ﻓﻲ ﺃﻭﺭﻭﺑﺎ لوثر ﻭﻛﺎﻟفن، بحد قوله في كتابه الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية: «قام ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺴــﻴﺤﻴﺔ ﻣﺼﻠحون ﻳﺮﻭﻥ ﺇﺭﺟﺎﻉ ﺍلدين ﺇﻟﻰ ﺃﺻﻞ ﺍلكتب المقدسة، ويبيحون للعامة أن ينظروا فيها ويفهموها، وقد رفعوا تلك السيطرة عن الضمائر والعقول، ومن عهد ظهور الإصلاح والرجوع إلى أصول الدين الأولى بزغت شمس العلم بالغرب».
ويُسهب ألبرت حوراني، في كتابه الفكر العربي في عصر النهضة، بشرح ما انطوى عليه فكر محمد عبده الإصلاحي: «فكانت إحدى غايات عبده الرئيسية أن يظهر إمكان التوفيق بين الإسلام والفكر الحديث»، مبيناً النزعة العقلية في فكر الإمام التي راح يفسر بها القرآن ويستدل بها على رسالته الإلهية، ويثبت بها وجود الأنبياء، والرسالات النبوية، فيقول: «كما أن بإمكان العقل أن يثبت وجود الأنبياء، فبإمكانه أيضاً أن يدلنا على النبي الحقيقي، وأن يُثبت بنوع خاص أن محمداً نبي حقيقي، وهناك أدلة عقلية تثبت دعوى محمد بأنه خاتمة الأنبياء، فبعد أن يبرهن العقل على أن القرآن رسالة إلهية، عليه أن يتقبل كل ما جاء فيه بلا تردد، وبعد أن يعترف بأن محمداً نبي الله عليه أن يقبل محتوى رسالته النبوية».
ولتأكيد النزعة العقلية في تعامل الإمام عبده مع النصوص الدينية يؤكد فرضية الإمام للعمل بالاجتهاد القائم على العقل كمفسر للنصوص فيقول: «غير أن هناك أموراً لم يرشد القرآن أو الحديث إليها بوضوح، إما لأن نص القرآن فيها غير صريح، أو لأن هناك شكاً في صحيح الحديث الخاص بها، فعلى العقل أن يقوم بدور المفسر، وهكذا يصبح الاجتهاد ضرورة جوهرية»، منتهياً إلى أن «المجتمع الإسلامي الأمثل عند محمد عبده لا ينحصر في الشريعة، بل يتناول العقل أيضاً، وعلى المسلمين أن يقوموا بإعادة تأويل شريعتهم وفقاً لمتطلبات الحياة الحديثة».
ويأتي رشيد رضا، وهو تلميد عبده الأمين، ليحمل راية الإصلاح من بعد أستاذه؛ إذ تعارف الباحثون على اعتبار رشيد رضا في بدايته من أشهر رواد الإصلاح الإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، فهو تلميذ الإمام، وأحد الذين تأثروا برؤيته للإصلاح، لا سيما نشر الثقافة الإسلامية والتربية وتطوير مناهج التعليم الديني والانفتاح على المفيد من الحضارة الغربية في مجال العلوم والمعارف، «إذ دلت عبارة الإصلاح في فكر عبده وتلميذه على معنى شمولي لا يقتصر على الإصلاح الديني فحسب، بل أيضاً الإصلاح الاجتماعي والتعليمي والسياسي والحضاري»، بحسب ما أقر هنري لوزيير في كتابه صناعة السلفية: الإصلاح الإسلامي في القرن العشرين.
ويسير التلميد رشيد رضا في بداية فكره - بحسب ألبرت حوراني - على نهج أستاذه الإمام معنياً بالتساؤل الذي انشغل به من سبقوه من رواد النهضة، وهو لماذا تخلفت البلدان الإسلامية في كل ناحية من نواحي التمدن؟ وما إذا كان هناك توافق بين الإسلام والحداثة؟ «وأمام هذه الحاجة الجديدة لا بد للشرائع أن تتغير تغيراً كبيراً لم يسبق له مثيل، وهذا التغير المنشود يجب ألا يقتصر على تعديل المذاهب الأربعة القائمة، بل يجب أن يتعداه إلى إنشاء مذهب واحد جديد، لذلك دعا رشيد رضا علماء زمانه إلى العمل معاً في سبيل إخراج كتاب في الشرائع، قائم على الكتاب والحديث، ومنسجم في الوقت نفسه مع حاجات العصر».
ويذكر حوراني بعض النماذج لتناول رشيد رضا بعض القضايا التي تبين إلى أي حد تخلى عن الموقف التقليدي ليتخذ موقفاً أكثر انسجاماً مع روح العصر، فيقول: «نراه يقلع عن النظرة التقليدية القائلة بأنه من الواجب قتل المرتد من المسلمين، فهو يعترف بأن وجود قتل المرتد يؤيده إجماع الفقهاء التام، ويتعدى ذلك إلى التساؤل إذا كان الإجماع مرتكزاً إلى نص صريح في القرآن؛ وإذ لا يجد نصاً في القرآن بوجوب قتل كل مرتد، بل يجد، على العكس، نصاً يُحرم كل إكراه في الدين، يستنتج أن ذلك الإجماع إنما هو مخالف لمبادئ الإسلام، ويجب بالتالي رفضه».
ويوضح رضوان السيد، في مقال له نُشر في مجلة العربي، الجانب الإصلاحي لفكر رشيد رضا: «عندما أصدر قاسم أمين كتابه عن تحرير المرأة ثارت عليه حملة شعواء لم تكن سائغة حتى بمقاييس ذلك العصر … والمثير للاهتمام بما يتصل بهذه الضجة التي أثارها كتاب قاسم أمين، هو وقوف مجلة المنار ورئيس تحريرها الشيخ رشيد رضا إلى جانب قاسم أمين، فقد عمد رشيد رضا إلى مناقشة الكتاب في ثلاثة من أعداد المنار، منتهياً إلى أن ما فيه هو مقتضي الشرع والعقل».
ويُسهب شكيب أرسلان، في كتاب حاضر العالم الإسلامي، واصفاً رشيد رضا بأن له الإحاطة والرجاحة، وسعة الفكر، وسعة الرواية معاً، والجمع بين المعقول والمنقول، والتطبيق بين الشرع والأوضاع المحدثة، «وهو الأولى بأن يخلف الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في مشروعه … وأجدر بمجموعة المنار أن تكون المعلمة الإسلامية الكبرى التي لا يستغني مسلم في هذا العصر عن اقتنائها، فهي - والحق يقال - أحسن مجلة ظهرت في باب الإصلاح الديني وتطهير الإسلام من شوائب البدع، وأعادته سيرته الأولى في عهد السلف».
لقد كانت أفكار كلٍّ من الأفغاني ومحمد عبده وغيرهما من الإصلاحيين - بحسب عبد الإله بلقزيز - تُشكِّل انقلاباً إيجابياً على جانب من التراث الإسلامي دون إحداث قطيعة نهائية مع هذا الموروث الإسلامي، فقرءُوا الفكر الليبرالي والعلوم الغربية وانفتحوا عليها واعتمدوها ناهلين منها ما شاءُوا أن ينهلوا، قبل أن يأتي رشيد رضا في مرحلته الثانية ليشَكِّل انقلاباً عليهم ويفتي بنوع من التشدد، مُجهضاً النهضة الإسلامية، بالتحول نحو السلفية والانشغال بقضايا العقيدة وبالظواهر والسلوكيات التي توصف حسب هذا الخطاب بالخرافات والبدع، والابتعاد عن النهج الإصلاحي الذي ينحاز للنهضة والتقدم والتمدن للأمة بأجمعها.
فيذكر عبد الإله بلقزيز، في كتابه العرب والحداثة تحت عنوان جانبي: عقلانية إصلاحية مجهضة، أن: «رشيد رضا الذي تتلمذ لمحمد عبده، وانتهت إليه أفكاره الإصلاحية الإسلامية، سرعان ما سيرتد عن تراثه العقلاني خاصة فيما اتصل بالمسألة السياسية، وهي جوهر خطاب الإصلاحية الإسلامية، فيما قطعت هذه الإصلاحية – منذ الطهطاوي والتونسي - شوطاً طويلاً في مضمار إنجاز القطيعة الفكرية مع منظومة مفاهيم السياسة الشرعية الخاصة بالدولة السلطانية المسماة في خطاب فقهاء السياسة بدولة الخلافة، والانفتاح على منظومة المفاهيم السياسية للفكر الليبرالي الأوروبي الحديث، للعودة مجدداً إلى موضوع الخلافة وفقه السياسة مدمراً (أي رشيد رضا) كل تراث العقلانية الإصلاحية في هذا الباب».
وبدفاع رشيد رضا عن الخلافة بوصفها نظاماً إسلامياً أصيلاً لا بد من عودته، وأن القصور عن فعل ذلك سيعود بالمسلمين إلى الجاهلية، فهو بذلك – بحسب ما ذكر نصر أبو زيد في كتابه إصلاح الفكر الإسلامي - قد لعب دوراً حاسماً في إضعاف الخطاب التقدمي لمحمد عبده، حيث سيصبح تدريجياً من أكبر داعمي الوهابية، خصوصاً بعد سيطرتها على الحجاز.
فضلاً عن ذلك فقد أقال محمد عمارة رشيد رضا من خط التيار الإصلاحي، موضحاً في كتابه رشيد رضا والعلمانية والصهيونية والطائفية: "إن اعتبار رشيد رضا إصلاحياً خلطٌ وتعميم يطمس فروقاً أساسية وهامة بين هذه التيارات، ومن مخاطره أنه يلبس المتخلف ثوب المتقدم، ويزين بعباءة العقلانية والاستنارة قوماً وقفوا فقط، وقفت بهم قدراتهم عند ظواهر النصوص».
هذا هو التحول الذهني والمنهجي عند رشيد رضا من الانحياز للفكر الإصلاحي الذي ينشغل بقضية النهضة والتقدم إلى الفكر السلفي في إطار الطائفة، فما هي تفسيرات هذا التحول؟
يرى وجيه كوثراني، في مختارات سياسية من مجلة المنار، أن المرحلة التي عايشها رشيد رضا، خاصة بعد موت أستاذه الإمام كانت مرحلة تاريخية عاصفة بالأحداث والانعطافات والتحولات الكبرى المصيرية أو المغيرة فعلاً للمصائر، مرحلة متقلبة وعنيفة.
فحاول أن يربط تحول صاحب المنار بهذه المرحلة، فيوضح ذلك بقوله: «شهدت المرحلة انفجار الحرب العالمية الأولى، وسلسلة المعاهدات السرية بين الدول الكُبرى من سايكس-بيكو إلى وعد بلفور، وانقضاض القوميين الأتراك على القوميين والإصلاحيين العرب، وقيام الثورة العربية، ومشروع المملكة العربية السعودية (فيصل)، وسقوط هذا الأخير مع مشروعه ومشروع والده، وقيام الثورة الكمالية التحريرية في تركيا، التي عطلت معاهدة سيفر، وبروز المشروع السعودي الثاني بقيادة عبد العزيز»، معرباً بأن هذه الأحداث حتمية لأن يُولّي محمد رشيد رضا وجهه شطر السلفية.
ومضى رشيد رضا - بحسب كوثراني - يدافع عن إسلامية الوهابية في وجه اتهامها الشريف حسين بالكفر. وبالنسبة إلى العصبية المؤهلة لاستلام السلطة، يرى رضا أن الشريف حسين وأولاده «ليس لهم قوة ولا عصبية في بلاد الحجاز ولا في غيرها من بلاد العرب»، وأن «جميع قبائل الحجاز القوية مشايعة لسلطان نجد عليهم، ولولا ذلك لم يستطع الوهابيون البقاء في الحجاز»، ويرى كوثراني أن دعم رشيد رضا المشروع السعودي يبقى دعماً «ينبع من قناعات الفقيه المسلم السني الرسمي، الذي يحرص على بناء الدولة الإسلامية كما يفهمها».
كان رشيد رضا وفقاً لألبرت حوراني: «يؤمن أن الشريعة تقتضي سلطة تحافظ عليها وتطبقها، معتبراً أن الإسلام دين السيادة والسياسة والحكم. بالنسبة له، لا يمكن إصلاح الشريعة الإسلامية إلا بإعادة تكوين الدولة الإسلامية، محاولاً استغلال إرث الخلافة والقول بأن المرجعية موجودة في التراث الإسلامي، تتجلى في نظام سياسي قائم على التشاور بين الحاكم وحرَّاس الشريعة ومفسريها»!
ويكمل ألبرت حوراني: «إن تأثيرات مكونات البيئة الدينية والفكرية كان لها دور في المنحى السلفي عند رشيد رضا الذي ينحدر من بيئة شامية متمسكة بالمذهب الحنبلي، وهو المذهب الذي رجع إليه فيما بعد».
لذلك يعتبر الحوراني أن هذا العطف على الحنبلية «هو ما حمله فيما بعد على الاندفاع في تأييد انبعاث الوهابية في أواسط الجزيرة العربية، وسياسة زعيمها عبد العزيز بن سعود، مرحباً بفتح الوهابيين للحجاز، ومبرِّئاً إياهم من تهمة الخروج على الدين، معلناً أن عقيدتهم سنية صرفة … ودينهم دين المسلمين الأولين».
ويضيف: «لا سيما وقد رأى رشيد رضا أن ابن سعود يكاد يكون أفضل من حافظ على المبادئ الجوهرية للسنة ودافع عنها بعد الخلفاء الأربعة الأولين، وفي هذا القول لم يسلم من تلميح أعدائه بأنه باع نفسه لابن سعود، وقد رد على ذلك بأن ما حمله على التخلي عن رؤيته الأولى في أن الوهابية بدعة إنما هو القراءة والتفكير».
من هذا القول يتضح أن رشيد رضا – بحسب هنري لوزيير في كتابه صناعة السلفية - في بدايته كان معادياً للوهابية وأفكارها، فهم «الذين كانوا يتجاهلون أهمية العلوم الحديثة، ويعارضون الأفكار الحديثة، في حين أن رضا كان من أنصار النمط الحداثي أو المعتدل في الإصلاح، وقد نقد الوهابيون رشيد رضا من أجل ميله الحداثي وعقلانيته العقدية، وتسامحه مع البدع الدينية».
ومن هذا المنطلق ينفرد صاحب كتاب صناعة السلفية بإقرار سبب تحول رشيد رضا نحو السلفية، إلى أن أصبح مؤيداً متحمساً للوهابيين، فهو «أقرب إلى الضرورة لا القناعة، لأسباب ذات أهمية سياسية اجتماعية في المقام الأول، والظروف التي جعلت رشيد رضا يقدم دعمه الكامل للسعوديين كانت بسبب إعلان الشريف حسن نفسه خليفة، بعد يومين من إلغاء أتاتورك للخلافة، هذا الحدث أكد غطرسة الشريف حسين في نظر رضا - جمعت عداوة بيت رضا والشريف حسين - عندما رفض الشريف حسين مشروع رضا لبناء تحالف بين حكام شبه الجزيرة العربية، وسرعان ما ندد رضا بانحياز الشريف حسين، واعتماده على دولة استعمارية غير مسلمة يقصد –الإمبراطورية البريطانية - من أجل البقاء في السلطة، وحين بدأ عبد العزيز آل سعود هجماته على الحجاز أصبح رضا من أكبر أنصار ابن سعود، وأكثرهم تأثيراً وإخلاصاً».
وتأصيلاً للدعوة الوهابية وإعلاءً لشأن محمد بن عبد الوهاب يقول رشيد رضا في التعريف بكتاب صيانة الإنسان، بعد أن ذكر فشو البدع بسبب ضعف العلم وترك العمل بالكتاب والسنة، ونصر الملوك والحكام لأهلها، وتأييد المعممين لها: «لم يخلُ قرن من القرون التي كثر فيها البدع من علماء ربانيين، يجددون لهذه الأمة أمر دينها بالدعوة وحسن القدوة، وعدول ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين … ولقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي من هؤلاء العدول المجددين، قام يدعو إلى تجريد التوحيد، وإخلاص العبادة لله وحده، بما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - وترك البدع والمعاصي وإقامة شرائع الإسلام المتروكة وتعظيم حرماته المنتهكة المنهوكة».
أما كرم الحيفاوي، في دراسة له بعنوان رشيد رضا بين التراث والحداثة، فيُرجع سبب تحول رشيد رضا من الحركة الإصلاحية إلى السلفية إلى «تمحور حول حفظ الهوية الإسلامية، فخطر الاستعمار الأوروبي ضرب قلب العالم العربي الإسلامي، وهناك حالة صعود للحركات العلمانية المتطرفة في محاولة لمحاكاة نموذج أتاتورك في تركيا، من هنا فصاعداً سيصبح رضا أكثر محافظة فيما يتعلق بالغرب، وسيكرس جهوده لمعركة الهوية بشقيها الثقافي والسياسي، فسخَّر مجلته وجهوده لفضح المخططات العلمانية من ناحية، والدعوة والتنظير لإحياء الوحدة السياسية الإسلامية الجامعة في صورة الخلافة».
بهذا أصبح رشيد رضا الناطق الرسمي باسم الوهابية في مصر، مؤسساً لما سوف يطلق عليه بعد ذلك الإسلام السياسي، وهذا ما عبر عنه عبد الإله بلقزيز بقوله: «لو استمر رشيد رضا في نهج النهضة الإصلاحية لم يكن ليُصبح الإسلام سياسياً، بالمعنى المُتأسس للحزب، كما دشنه تلميذه حسن البنا في مصر».